شذا حجازي
كأنه حلم، حلمٌ مرّ علينا دون أن نشعر، وكأننا كنّا في غيبوبة استيقظنا منها على واقعٍ مختلف، لكنه ليس أفضل. الحرب تركت وراءها مشاعر مختلطة، وخلّفت تاريخاً لن أنساه أبداً. وربما لست الوحيدة التي تحمل في داخلها هذا الإرث الثقيل، بل هناك الكثير من اللبنانيين من مختلف المناطق لن ينسوا ما جرى. كان للحرب نهاية، لكن ما خلّفته في قلوبنا وعقولنا لم ينتهِ بعد، وكأنها استوطنت ذاكرتنا، تاركةً وراءها فراغاً غريباً لا يُملأ.
هل حقاً انتهت؟ هل يمكننا أن نعيش حياتنا كما كنا من قبل؟ أسئلة لا تفارقني، وأنا أسترجع صور بيتي المهجور، الزجاج المكسور على الأرض، والأشخاص الذين تخاذلوا ولم يكونوا بجانبنا حين احتجنا إليهم. وتبدأ سلسلة "لن" التي لا تنتهي: لن أنسى كيف تبدل كل شيء في لحظة، لن أنسى الشوارع التي تحولت إلى أنقاض، ولن أنسى كيف كان الخوف يسيطر على وجوه الجميع. كلنا نشعر أن الحرب كانت حلماً، أو بالأحرى كابوساً لم نستيقظ منه بعد. الأيام مرّت، لكن دون أن تحمل معها الشعور بالأمان الذي افتقدناه. كنت ألتقط الصور وأوثّق كل شيء، كأنني أحتاج دليلاً يثبت لي أن كل هذا كان حقيقياً. حتى اليوم، أعيد مشاهدة تلك الصور والفيديوات، وأشعر بنفس القشعريرة التي اجتاحتني في عدد من الأيام.
نحاول أن ننسى، لكن كيف ننسى ونحن ما زلنا نعيش تبعات ما حدث؟ الحرب لم تبدأ فجأة، ولم تنتهِ فجأة. كنا نتجاهل العلامات الأولى حتى أدركنا أننا عالقون في دوامة لا مفرّ منها. ذاكرتي مشوشة، لا أستطيع استرجاع الأحداث كاملة، لكنها محفورة في داخلي كصور متفرقة تبعث فيّ إحساساً غريباً، وكأنني أعيشها من جديد في كل مرة أسترجعها. نتحدث مع الآخرين، ونكتشف أننا لسنا وحدنا في هذا الشعور. الجميع يشعر بنفس الثقل، بنفس الحزن، بنفس الاضطراب. وربما هذا هو العزاء الوحيد: أننا لسنا وحدنا. الزمن لا يعيد لنا ما فقدناه، لكنه علّمنا قيمة الأشياء التي كانت تبدو عادية. نشكر كل من ساعدنا في استعادة منازلنا، جدراننا، وأرضنا، لكن الأهم أننا استعدنا جزءًا من حياتنا، من ذكرياتنا، من هويتنا.
ما تعلّمته من هذه الحرب لن أنساه أبداً. تعلّمت أن أقدّر كل لحظة داخل منزلي، أن أحتفي باللحظات التي كنت أعتبرها مملة، أن أستمتع بروائح الطعام التي تصنعه أمي، وأن أعي جيداً أن لا شيء يعوّض دفء المنزل. الحرب سرقت منا الكثير، لكنها منحتنا درساً لا يُقدّر بثمن: أن نعيش، أن نحب، أن نصنع الذكريات، وأن نتمسّك بالأمل، رغم كل شيء.