هل نحتاج عند الكتابة عن عمل جديد لكاتب(ة) ذي صيت، أن نذكِّر بأعماله السابقة ضمن سيرة أدبية منتظمة، وتحديد موقعه في سياق متن جماعي ارتبط كتابه، وعوالمه أغلبها، بوضعية اجتماعية سياسية مهتزة وحربية متداومة الانفجار من واقع إلى ذات، وبالعكس؟
لا أرى هذا ضرورة إذا قرأنا رواية جديدة لكاتبة دأبت منذ بواكير إصداراتها "حجر الضحك"(1990) وما تلاها ممّا اشتهر: "حارث المياه" (1998) ثم "سيدي وحبيبي" (2006) وخصوصاً: "ملكوت هذه الأرض" (2012)؛ أقول دأبت على تجاوز نصوصها بامتصاص كلِّ واحد وطيِّه ضمن الذي يليه، ينبغي أن تستحضره لدى القراءة عوالمَ وشخصياتٍ ومحكياتٍ متعالقة تُشكّل بنيةً كليةً لسردٍ لصيقٍ ببيئةٍ عميقةِ الجذور ومتعددةِ المصادر تتجلّى في مَحفَل الذات لذا غلبت عليها في بداياتها نثريةٌ شعريةٌ قبل أن تنضج رؤيةً موضوعيةً ببناءٍ محكم.
هذا ما ينطبق من عديد نواحٍ على آخر إصدار لهدى بركات "هند أجمل امرأة في العالم" (دار الآداب، 2024) هي عندي تتويجٌ لمسيرة روائية من ثلاثة عقود، ومرآةٌ صقيلةٌ تعكس مجموع ما عملتْ به من أدوات فنية، وجرّبته طرائقَ سردية، وشغلت به هموماً وحيواتٍ ودلالات.
وفي الوقت تجمع خلاصةَ تجارب في آخر الطريق. فماذا تقدم لنا صاحبة "رسائل الغريبة" في رواية تبدو كأن روحها مقتبسةٌ من هذه الأخيرة، وامتدادٌ لرؤية اسمُها الاغتراب، قدماها في الأرض ورأسُها في السماء، هو هنا ومنفصلٌ لا يكتفي بما تراه العين، فيشحذ البصر باجتراح الخيال.
هنا حيث تزدوج الشخصيةُ لتكون (أنا) وتسرد قصتها وفق مقتضى الذاتية حتى لتحسبها من خطابها المباشر وقصديتِها ومحكيِّ محنتها سيرةً ذاتية، لولا أن العقدة فيها تكشف العكس؛ ثم تنتقل إلى الصوت المختلف يروي حكايةً شخصيةً مختلفةً هي الأم، ومن هذين الصوتين تتوالد أصوات (شخصيات) ومحكياتٌ أخرى توَسِّع دائرةَ الرواية ومضمار أفعالها وعوالمها ومقاصدها من ثم أبعادها بتعدّد يضمن أداءه البوليفونية.
أشكال العاهة
باختصار، هي قصة هنادي، تتولى سرد حياتها ووصف أشكال عاهتها، جرّاء إصابتها بمرض تضخُّم الأطراف والعظام (الأكروميغاليا)، وبسبب المرض الذي يُظهرها في صور قُبح مفرطة تعمد أمُّها إلى حبسها في علِّية المطبخ زمناً قبل أن تنجح في الهرب، وتتدبر بعلاقة ما سفرها إلى باريس حيث لها عمّة، لا تجدها عند الوصول، فتقترن بشخص مشرّد يرعاها وتلج مستشفى للعلاج أثناء وجودها في عاصمة الأنوار.
بعد إقامة تطول وتسوء فيها أحوالُها ترى أن لا مناص من العودة إلى بلدها لتجد أمها ماتت وبيت العائلة استُبدل بشقة صغيرة تلِجها وتعيش فيها بمالٍ أودعته الأمّ لحسابها في البنك؛ أثناء ما تعاني من تطور مراحل مرضها واضطرارها إخفاء عاهتها ينُفر الناس من رؤيتها، ولا ينفكّ المرض يستفحل بالرغم من محاولاتها التكيّف مع محيطها، وما تربطه من علاقاتِ جوارٍ متعاطفة معها تروى خلالها حكايات ومجرى أحداث موازية تبقى دائماً مركزها.
خطّيّة السرد
يصطدم قارئ هذه الرواية بأكثر من عقبة والتباس لتتبع مجراها. فهي أولًا تكسر خطِّية السرد، أي التسلسل الزمني والحدثي، وأغلب كتاب الرواية يفعلون هذا اليوم بموجبٍ وبدونه، وإن ظهر هنا مبرّراً نظراً لوضع الشخصية الفاعلة (البطلة) في بؤرة مركزية، تُرخي حبل الحكي وتسحبُه لمرادٍ محدد.
والثاني، أن هندًا اسمٌ لشخصيّتين، واحد يُشار إليها ماتت وفُجعت فيها الأم بقوة، هي أختُ هند مفرطة الجمال ذاتُ العاهة، من تتولى السرد وتمسك بزمام كلّ شيء في الرواية بدايةً وانتهاءً، وتنتقل بين الاسمين بدون رابط في تمويه يُربك القراءة وإن غرضُه معارضةُ القبح الحاضر (هند العاهة) بالجمال الفاني (هند الميتة).
ومما لن يفوت القارئ انتقال الفاعلة المصابة على امتداد الرواية بين مواقعَ وأوضاعٍ تكاد تكون سحرية، أي تفتقد السببية ومنطق الواقع، وهو ما يتعذر للكائن في أحوال طبيعية كيف وهو في وضع إعاقة. سنتكيف مع هذه الانتقالات الخارقة والخرقاء في آن، إذا ما عللناها بتقصُّد الكاتبة لنوع وأسلوب (الغروتيسك) مزيج كاريكاتور وتمسيخ وتهويل، تظهر معه هند المعاقة في أوصافٍ عضويةٍ ذاتِ هيئات حيوانية مخيفة ومثيرة للشفقة. هذا قصدٌ أساسٌ مبتغى يحتل معه العطب موقعَ البطولة وعقدةَ الرواية، تقِلُّ دونه سائر الفداحات وتندمج فيه كتلة واحدة صانعة تمثيلاً آخرَ للتيمة التي تشتغل بها هدى بركات في رواياتها، وأكاد أقول الروائيين اللبنانيين جميعاً.
للعطب أشكالٌ ووجوهٌ وأسماءٌ ولغات، يتسمى أحيانًا، وأخرى بالإشارة والإحالة، وطورًا بالمجاز، الغالب عدم التصريح. نبدأ بعاهة (عطب الأم) ستصاب بالألزهايمر. يليها عطبُ الأب الذي سيتخلى عن العائلة وتتحرق هند لمعرفة مصيره لن يكتشف إلا في النهاية، في العار، فقد فرّ بعد جريمة قتل هرباً من الثأر التحق بإسرائيل انضمّ إلى ميليشيا لبنانيين (مليشيا لحد 1976).
ثالثها شخصياتٌ محيطيّةٌ مرافقة قياساً بالمركز لا شيء فيها سويٌّ وعطبُها تصوّره طبعاً ومظهراً بالمفارقة لإنسانيتها. رابعها وهو مكانها البلد في وضع الخراب يشار إليه بالعصف المجنون (انفجار المرفأ) ولا يتسمى أبداً كأنه (no man’s land)، وفضاؤها، أفضيتها، حُجراتٌ وملاجئُ خربةٌ غيرُ قابلة للعيش، سواء في البلد الأم(لبنان) أو باريس.
هي، إذن، مرض وعاهة جماعية تتماهى فيها شخصية/ شخوص مع محيطها يغلب عليها ومحيطها طابع التجريد، اللاتعيين للمكان والزمان والأسماء اعتباطية لا غير. هو اختيار للكاتبة من منطلق رؤية الخراب والعطب الكبرى، جسّدتها بالحد الأدنى لأن فنّ الرواية لا يعمل بالاستعارات والتلميح، وسردتها بأناة وانسياب وحبك محكم تتداخل فيه الوقائع وتتعدد الأصوات وتتنوع الوظائف لخدمة العقدة المركزية، وإن تشتت عناصرها وتبعثرت أطرافها برمية تستعيدها كاتبةٌ باتت تتحكم في أدواتها بعد أن اختبرتها بدُربة في أعمال سابقة، ونراها في روايتها الأخيرة تدفع فنها نحو شوط مختلف يكثّف تجارب سابقة ويقترح منظوراً رؤيوياً وصيغة سردية وجمالية مختلفة، يستدعي قراءتها بوصفها أليغوريا، يرمز فيها مرض هند التي كانت جميلة إلى معادل إصابة بلد كامل/ لبنان ب"الأكروميغاليا".
بعد فلسفي
مالي لا أقول فلسفية ، أيضاً، بمعنى محتوى الخطاب الذي تنتجه الشخصية (هنادي) متعمقةً في مرضها بنقله من المستوى العضوي إلى الرّوحي والوجودي. تفهم هدى بركات وتعي أن الروائيَّ اليوم ليس هو حكواتي أمس، وأن استخدام هذا الجنس الأدبي تعبيراً يلزمه نسغ فلسفي وحمولة فكرية تتخلله وتُبنى عليهما كيانه الشكلي ومعماره، لكن بأدواته وفي مضمار تشكله وبنسقه الخاص، فلا يعلو فيه تمحُّل التفكير، ويتحول إلى منبر خطابي وتعليمي وهذه إحدى أعطاب الرواية العربية المعاصرة، حين تتعدد وظائف ضمير المتكلم ليتماهى بعد شخصيته إلى حد يطرد الكاتب سارده ويستبد بدوره، يزيحه ويتكلم في الرواية، فتسمع مثلا شخصية نصف أمية نصف متعلمة تتفلسف في الطبيعة وما وراء الطبيعة، وهكذا تفسد الطبخة، لذلك يقال لا جمال كامل، ومن حق بركات الطموح للكمال، لأجمل رواية، سواء أدركتها أم عزّ، فلها في السرد بمرجعه الفني العالي ومبتغاه القيمي موقع مرموق.