هات وخذ: المقايضة خيار أخير للهروب من الجوع

تجلس فاطمة جودة (43 عامًا) في خيمتها المتآكلة في إحدى مخيمات النزوح بخان يونس جنوب قطاع غزة، تُمسك بكيسٍ بلاستيكي قديم يحتوي على كل ما تبقى من مؤنتها: ثلاث علب حمص، كيلو أرز، وكيلو سكر. هذه ليست قائمة تسوق، بل سلع تبادل، فهي على وشك مقايضتها على كيلوين من الطحين.
عثور جودة على الطرف المقابل لعملية المقايضة لم يكن مستحيلاً؛ إذ وجدت ضآلتها عبر مجموعة نسائية على فيسبوك، حيث تتحوَّل المجموعات الرقمية في غزة إلى أسواق بدائية يتبادل عبرها السكان المنفعة جرّاء تردّي الأوضاع المعيشية بفعل الحرب.
لم تكن فاطمة وحدها من لجأت لنظام المقايضة، الحال ذاته واجهه الآلاف من المواطنين الفلسطينيين في غزة في ظلّ تفشي أزمة شُح السيولة النقدية، وارتفاع أسعار السلع بنسبٍ غير مسبوقة، جرّاء استمرار إغلاق إسرائيل لمعابر القطاع منذ مارس الماضي، ومنع إدخال المساعدات الإغاثية، وإعلان المنظمات الأممية نفاد مخازنهما من الدقيق والمساعدات بحلول أبريل.
أما الصفقة التالية في قائمة جودة: كيلو أرز وثلاث علب سمك مقابل كيلو دقيق آخر. في غزة اليوم، لم يعد المال وسيطًا للتبادل؛ بل السلع نفسها. السكر يُستبدل بالطحين، ومعلبات التونة بالبقوليات. حتى أكثر الصفقات استغلالًا تُقبل لأنَّ البديل هو الجوع.
وأُعيد استخدام نمط المقايضة في قطاع غزة كأحد أشكال التبادل التجاري القديمة التي سبقت ظهور العملات النقدية، بين الأقارب والجيران واتسعت الدائرة بين الغرباء حيث انتقلت تدريجيًا للتوسع عبر منصات التواصل الاجتماعي، والغاية منها تبادل السلع ، في محاولة للتخفيف من الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي يعانيها السكان مع تفشي الجوع.
سوق غزة الذي كان مكتفيًا ذاتيًا بإنتاج البيض والحليب واللحوم والخضراوات، أصبح اليوم خاوي من أي منها بشكلٍ يُربك السكان، فيما يُباع ما تبقى من السلع كالبقوليات والأجبان والزيوت بأسعار فاقت سعرها الطبيعي عشرات المرات. وبعد أن كان بمقدور الأسرة شراء بيضتين بقيمة شيكل واحد، أصبح ثمن البيضة يتجاوز العشرة شواكل، وهي قيمة تعجز عن دفعها غالبية الأسر التي تعاني عجزًا في الدخل.
فتلك السيدة "جودة" تتأمل قائمة أسعار السلع في السوق بالشيكل من لتر زيت القلي (70)، زيت الزيتون (90)، كيلو السكر (80)، كيلو الملح (30)، كيلو الطحين (45)، وتقول إن تلك الأسعار تفوق قدرتها على اقتناء أي من تلك السلع الأساسية، ومثلها 2.3 مليون نسمة في قطاع غزة يعانون انخفاض متوسط الدخل اليومي إلى أقل من دولارين.
"لم يتذوق أطفالي الخبز منذ عشرة أيام"، تقول السيدة جودة وهي تنخل الطحين المُلوّث بالسوس، بينما يتحلّق أطفالها الأربعة حولها، عيونهم تنتظر بلهفة نضوج أول رغيف، فيما تظهر على أصغرهم مؤشرات سوء التغذية.
وحوّلت الحرب المجموعات النسائية أو الأسواق الإلكترونية من مساحة للنقاشات أو إثارة الطرائف، إلى لوحات إعلانات تكتب بصيغ استغاثة: "بدي كيلو طحين وبعطيكم أرز، سكر، معلبات...". التعليقات تتحوّل إلى شِبه مزاد علني: أحدهم يعرض نصف كيلو شاي مقابل علبتي فول، وآخر يطلب حفاضات أطفال بدلًا عن كيس دقيق.
لكنّ النظام البدائي هذا ليس عادلًا دائمًا من وجهة نظر الكثير، لكن الناس مضطرة إليه. يعي المواطن أحمد عبد اللطيف (55 عامًا) ذلك جيدًا. ويقول إنه اضطر إلى التخلي عن ثلاث كيلوغرامات من الطحين وهي السلعة الأثمن حاليًا مقابل ثلاث علب من الجبن.
يقول عبد اللطيف الذي يعمل موظفًا حكوميًا ويتلقى راتبه بنكيًا: "كنت أعتمد في الشراء على التطبيق البنكي لكن أصبحت البقالات التي تقبل به نادرة"، وبعد أنّ نفذت الأموال المتبقية من راتب الشهر الماضي الذي دفع عبد اللطيف لقاء الحصول عليه عمولة 35% لمكتب الصرافة، لجأ إلى صفقات المقايضة كحلّ أخير.
"الصفقة خاسرة، لكن ما الخيار؟" يضيف عبد اللطيف، بينما تحاول ابنته الصغيرة إقناعه بمقايضة علب البسكويت المتبقية لديها من طرد إغاثي قديم مقابل كيلو سكر. "طمعاً في شرب شاي مُحلى"، يضيف بحزن.
منار عبد الكريم (29 عامًا) حامل في شهرها السابع، تبادلت أقراص فيتامينات مقابل ما تبقى لديها من زيت قلي، تقول إنّها اضطرت إلى ذلك بعدما تردّت حالتها الصحيّة كثيرًا، وهي واحدة من أصل 55,000 امرأة حامل تحدّيات صحيّة غير مسبوقة في هذه الظروف الإنسانية الصعبة التي تجتاح القطاع.
ويرى حقوقيون أنّ هذا الحصار المُشدد، الذي يحول دون وصول الغذاء والدواء، يُمثل انتهاكًا للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر العقوبات الجماعية ضدّ المدنيين، كما ينتهك المادة 11 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي يضمن حق الإنسان في الغذاء الكافي.
وراء هذه القصص، ثمّة أرقام تُشير إلى كارثية الواقع المعيشي في قطاع غزة، فوفقًا للأمم المتحدة، 91% من سكان غزة يعانون انعدام الأمن الغذائي، وارتفعت مُعدلات سوء التغذية الحادّ إلى مستويات قياسية، وصفتها المنظمة الأممية بالخطيرة، بعد زيادة بمقدار 10 مرات عمّا كانت عليه قبل أكتوبر 2023، وهو يُشكل انتهاكًا جسيمًا للبروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (المادة 54)، الذي يحظر تجويع المدنيين كأسلوب حرب.
الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر يُفسر عودة سكان قطاع غزة إلى نظام المقايضة الذي اختفى منذ آلاف السنين، بانهيار ثلاث ركائز: انعدام السيولة (حيث تصل عمولة سحب 100 شيكل إلى 35%)، اختفاء السلع الأساسية، وارتفاع البطالة إلى 80%؛ الأمر الذي دفع المواطنين إلى ابتكار حلول للأزمة الاقتصادية المتفشية.
ويٌشير إلى أنّ تحويل غزة إلى سوق مقايضة هو نتيجة حتمية لـحصار غير قانوني استمر 17 عامًا، تزامن مع حرب إسرائيلية دمّرت البنية التحتية للغذاء والصحة.
"ازدادت نسب التعامل بنظام المقايضة كثيرًا عن السابق لكنّها ليست حلاً، بل مؤشر على انهيار النظام التجاري برمّته"، يقول أبو قمر، مؤكدًا أنّ الظاهرة لن تتراجع إلا بعودة فتح المعابر وتوفر البضائع مجددًا في الأسواق، ودخول المساعدات الإغاثية وتوزيعها، وتدفق السيولة النقدية إلى غزة.
وراء كل حفنة طحين تُقايَض، يبرز سؤال مرير: ماذا سيحدث عندما ينفد الطعام تماماً؟ يعرف أهالي غزة أن نظام المقايضة هذا مجرد مُسكّن مؤقت، وأن سوقهم البدائي هذا مصيره الانهيار، لكنهم يواصلون التبادل كخيار أخير أمام الحصار الذي أجبرهم على العودة إلى أنماط عيش ما قبل التاريخ. هنا، حيث تحلّ علبة التونة مكان النقود، وتصبح حفنة الأرز عملة ثمينة، لم يعد هناك مكان للكرامة الإنسانية، فقط البقاء.