سامي أبي خليل
التقدم بالنسبة لشعب ما كما بالنسبة للبشرية جمعاء، هو عملية تراكمية للعديد من الأفكار والبحوث العلمية والاكتشافات والإنجازات، إذا اجتمعت تشكل فلسفة أسلوب الحياة وطريقة الوجود والعيش لمجتمع هذا الشعب. ويجب أن تحترم الإنجازات هذه الأساليب في الحياة، وأن تظل متماسكة ومحترمة لبيئة القيم التي تم اكتسابها والمرغوب فيها. هذه الإنجازات والمشاريع تميل نحو تنظيم أكبر، علم ودراسة أكبر، وازدهار أكبر، وإنجاز أكبر، وكمال أكبر، ورفاهية وخير أكبر و انخفاض الأعمال الشاقة في العمل.
وهذا لا ينسجم ولا يتناسب مع من وما يناقض التنظيم والنظام أو يعمل بتعاكس وبالتردد المستمر والدائم الذي يخلق الفوضى والاشمئزاز في النهاية.
تعمل الفوضى والاضطرابات على هدم ما تم بناؤه خلال فترة الحكم الهادئة من أفكار وأنظمة، وكذلك البنية التحتية الحديثة والمتطورة، والمرافق والمعدات والضيعة والمزارع والمدينة الحديثة، المتطورة والمتقدمة.
والاشمئزاز واليأس يولدان الهجرة. أما النوايا السيئة عندما تختلط مع مشروع سياسة الشر، وإذا انكشف، تؤدي في كثير من الأحيان إلى خلق العنف، التعذيب والجريمة والقتل إن لم يقطع خيط الشر من خلال التربية العامة مثلاً أو بقرار شخصي كتربية أولاد المدارس وأولادك في البيت لترسيخ الطرق السليمة دون عنف وبالهدوء المناسب.
ومن يدّعي التقدم بينما يشارك أو يخلق الفوضى بأفعاله، وتحالفاته وخياراته ومواقفه، وعند أي فرصة ينطق بها بصراحة، فهو ينسف مشاريع وأفكار التقدم بدلاً من الانسجام مع أقواله السابقة وبيئته المتقدمة أو التقدمية. وهنا نتساءل إن كان مبدأ التقدم والتقدمية عندهم هو شكلي وعلى الشفاه فقط للمجاملة وعند التحدث الى صحافيين أجانب لإظهار تمدّن ظاهري فيكذب وكأن المظاهر هي الأساس.
هذا الانحطاط الفكري والأخلاقي الفعلي لا يليق بالتقدم ولا يستحق هذه التسمية، بل إنه يعزز التخلف والرجعية ولا يقنع أحداً. وهذا يعيد الأجيال إلى الوراء ويخلق البلبلة. عدا عن ذلك، فهو يخلق حالة من زعزعة التربية وقلة الاستقرار السياسي والأخلاقي والاقتصادي، ويساعد على خلق حالة من عدم الثقة لدى المستثمرين الذين يبحثون عن مواقع الاستقرار والثقة للمراهنة والاستثمار.
بالتالي، إدّعاء التقدم والتقدمية لفريق أو شخص وتطبيق العكس عملياً، أو من وقت لآخر، حتى لو تم تطبيق السلوك على قسم من بيئته فقط، للأقرب إلى الموقد الإقطاعي، أو للأكثر حظاً بينهم، فإن هذا سيؤدي إلى فقدان مصداقيته وسمعته السياسية والمبدئية والى انقسام وخلل في المجتمع، وسيشكل الهدف الذي يجب إسقاطه وليس تحية أو السهم الذي يتم إطلاقه نحو مستقبل أكثر راحة. والإقطاعية هذه لها تاريخها المعروف الذي يتناقض مع التقدمية ولها أساليبها التي تتناقض مع الديمقراطية والإنسانية كما نعيشها ونتشارك بها اليوم.
وهنا تظهر بوضوح في الشخصية معالم تدلّ وتكشف أفكاراً، سلوكيات ومواقف عنفوانية/عنفية كانت مخفية أو مطمورة عمداً. ظننا أن الإقطاعية قد نساها الزمن وها هي تطفو من جديد على السطح فجأة عند البعض، حيث نلاحظ أنه لم يكن هناك إرادة لمحاربتها بالتربية أو قمعها لتبقى في الأعماق أو في العصور القديمة.
تكمن هنا مشكلة النوايا السيئة التي تعيد تكرار تاريخ الأب أو الأجداد المعتادة على طرق الشغب أو التحريض أو الإقطاعية. حتى لو لم يريدوا ذلك، فذاكرة الإنسان تعيد تلقائياً استنتاج الفكرة، مثل كرة الاسكواش، الكرة التي ترتد من جدار إلى جدار آخر، وهذا نتج وينتج نفس التأثيرات مع أجيال أخرى. على سبيل المثال، حصل الانتقام والقتل الجماعي ومذابح الأبرياء الذين لم يتورطوا قط في أي عمل استفزازي أو عنف أو عدوان وحتى جرائم قتل ليحاسبهم أحد بل كانوا يعتبرون أنفسهم أصدقاء أو تبنتهم هذه البيئة كأفراد منها. وهنا تأتي الصدمة والمفاجأة السيئة أو صحوة الرغبة في الانتقام إن كان الحق القانوني ليس ممكناً للضحية. وتبدأ دورة العنف من جديد وتستمر في مسارها. إلا إذا كانت الضحية ذكية، حكيمة، صبورة أو غير راغبة في الانخراط في نفس المسار العدواني، واعية ومتعلمة جيداً لفهم أبعاد هذا الكلام وهذا الخطر وقطع "خيط الشر" بتفادي أي ردة فعل مماثلة. نذكّر هنا، عمليات أو جرائم سيفو المعروفة ضد السريان: ܩܛܠܥܡܐ ܣܘܪܝܝܐ ("السيف" أو "المبارزة")، التي كانت عمليات قتل جماعي مخططة مبرمجة للسكان السريان "الآشوريين" في الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.
وهكذا بدأت عدة حروب في لبنان والمنطقة خطط لها أصحاب النوايا السيئة، لم يكونوا بالضرورة أجانب، حاولوا خلق واستغلال الأحداث والغوغاء لتحقيق مكاسبهم الخاصة والأنانية الشخصية أو الاقطاعية أو الاستعمارية للآخر فأوقعت العديد في فخها ومناوراتها وتلاعباتها وتخريباتها.
والتقدمي لا يمكن أن يكون أنانياً ويطبق التقدم ليتكابر ويغش الآخرين من أهله وبيئته الذين لا يشاركونه في النتيجة والأرباح وفي نجاح التقدم الذي تم الحصول عليه بفضل جهد الجميع. وهكذا تبنى الإقطاعية من جديد ويتبعها الغبن والعبودية.
وهكذا يخلق الطغاة الذين يجلبون الغزاة. هذه العبرة من ابن خلدون.