ريتا الشيخ
كل شيء له بداية وله نهاية، أحياناً البداية تكون مصادفة تدخل حياتنا لسبب لا نعرفه؟ ولكل مصادفة منا حكاية تفرحنا، وتبكينا، وتصدمنا. تمر الأيام والأشهر والسنين، والصباح الجميل والعصافير تغرد لنا لنقول لبعضنا كل يوم bonjour . كل شيء كان شاهداً من حولنا، المكان الذي كنا نعمل فيه، النظرات الصامتة. ويبقى للقلب دوره أن يدق نوتات الحب، وللعيون، وللكلمات لغة عميقة لا تنتهي يختارها لنا الله. نعمة الحب تدق أبواباً مغلقة أو ليست مغلقة تماماً، كانت هذه اليد مشغولة بالأعمال الحياتية والأوراق والمفاتيح والاتصالات والاجتماعات. فهناك الشعور الطفولي والحب الغريب الجميل الحنون غير القابل للتعبير لتعلقك بلمسة سحرية غير مقصودة لمسة أم أو حتى لمسة صديقة، تشعرك بالأمان والفرح والمحبة المقدسة بطهارة قلب كطهارة قلب طفل. فتتعلق يوماً بعد يوم وتزداد الأحداث، ويقصر النهار ويطول الليل، وتحلم وتفكر وتتمنى ألا تأتي الساعة الخامسة، ألا ينتهي دوام العمل، ألا تعود الي البيت، فتلحق بها خوفتاً من أن تفقدها. تريد أن تذهب معها، تراقب تلك السيارة تبتعد ولا تعرف الي أين؟ وتصلي أن تصل بأمان وتسأل نفسك لمَ هذه المحبة؟ ويأتي الصباح وتنتظر أن تراها في الوقت نفسه كالعادة bonjour تراها تركض مسرعة تحمل حقيبتها السوداء، تدخل مكتبها وتعمل طوال النهار بجهد، إنها مثال الأم المجاهدة. فتجدني أتمنى لو أستطيع مساعدتها في أي شيء، أتصل بها كلما تأتي الي المكتب أريد أن أسمع صوتها، أن أحدثها، أن أحميها، ألا تبتعد عني فالنهار طويل وهي وحيدة في المكتب تعمل ولا أراها إلا إذا غادرت أو إذا مرت لكي تعطيني ظرفاً.
حينما أراها أفرح كأنني ملكت الدنيا. كنت أدرك في ذاتي ما أريده وهو أنني فقط لو أستطيع أن أبقى قربها كل يوم. سرّ ما يشدّني، كأن القلب انقسم بين لهفة طفل ولهفة أم والدم يحن أكثر فأكثر! ممكن تشك في أن الدم واحد حتى لو من بعيد . غريب أن نشعر ما لا نستطيع وصفه بعمق ودقة لغرابة هذا الشعور، وتبقى على حلم أن يتحقق وتنتظر كل ثانية أن تمر لكي تأتي.
الكلمات هذه جزء صغير من الوصف والتعبير لسنين مرتا على قلبين جميلين وشعور لا يمكن أن يمحوه الزمن . على طريق مررنا فيها كل يوم والتقينا وجهاً لوجه لقاءً ووداعاً. من هي؟ ومن أنا؟ ولم هي ولم أنا؟ لكل مصادفة سبب . كل يوم أركض داخل مكتبي مسرعة أرفع السماعة أريد أن أقول لها . bonjour
لم أرها اليوم ربما لم تأت بعد، الهاتف يرن وحده في المكتب، لا جواب. كلما تأخرت كلما ركضت نحو الهاتف كان عقلي مع شغلي وقلبي ونصف عقلي معها. لو أستطيع أن أجلس معها لو تأخذني فسحة لو تهتم بي، لو نحتسي القهوة معاً، لو أننا لا نضيع أي لحظة، لم هذه الأحلام ليست حقيقة؟ لما هذه التمنيات صعبة التحقّق؟ ذاك اليوم كان الطقس ماطرأً بغزارة والحوادث كثيرة والطرق خطيرة، خفت من الأمطار القوية واتصلت بها أن تذهب باكرأً قبل أن تتحول الطرق الي ينابيع. خفت عليها من نسمة الهواء، كنت أشعر بوجودها قبل أن تأتي بلحظات. في عيد الأم أرتمي بين ذراعيها كالطفل "الكانغورو"! تلك اللحظات تمنيت لو أن هذه اللحظة تطول ولا تنتهي كأنني ملكت العالم. لم أكن أتخيل أن هذه السعادة ستنتهي أمام عيوني بلا كلمة تفرح حتى قلبي أو حتى تطمئنني الى استمرار التواصل واللقاء.
للحظة فقدت كل الأيام التي مرت واللحظات والمواقف الحلوة الدقيقة . أمسك بالسماعة وأطلب هاتف المكتب، يرن ويرن لا جواب. لم تعد ترد على مكالماتي. اتصل بالجوال لا ترد أيضأ، بت ضائعة حائرة، غصة في القلب تحرقني لم أدرك السبب، لم يشرح لي أحد عن سبب تركها للعمل! أعاود الاتصال بالمكتب كل شيء صامت، فقط رنين الهاتف كلما طال كلما مات قلبي. شعور لا يوصف. أخر الدوام مرت حاملة رزمة من الأوراق تسلمني إياها، تنظر اليٌ نظرة لا يمكن أن أنساها، نظرة أليمة غامضة عميقة، قالت : "إحتفظي بهذه الأوراق. يلا بس خلص . باى ". لم أستوعب معنى كلامها! ركضت مسرعة خلفها أمنعها من الرحيل، لا لن ترحلي، قالت "بدي روح"! كنت سأقع أرضاً، كأن قلبي اقتلع من جسدي وروحي فارقت حياتي، فأجهشت بالبكاء كالطفلة ناسية كل من حولي، فغمرتني بحنية! نظرت إليها عاجزة وسألتها: "أنا ما رح إرجع شوفك؟"، و"شو يعني؟"، ردت بصوت خافت حنون. تركتني ورحلت بقلب منكسر. ركضت الي الجوال اتصل بها لعلها تفسر لي، لعلها تطمئنني، أريد أن أقول لها لو أستطيع أن أراك مجدداً، أن نتكلم، أجهش بالبكاء أصرخ، الجوال مقفل.
ومرت الحرب ، فبقيت الذكريات حكاية قد، أما القلب فوجدته يبكي نهاية حزينة عنوانها وشو يعني؟