منذ نصف قرن، يُواصل الكاتب الأردني إبراهيم خليل مسيرته الكتابية، التي بدأها بكتاب "الشعر المعاصر في الأردن"، وشكّل كتاب "في الشعر العربي الحديث والمعاصر" 2024 أحد أواخر تجلياتها. وهي مسيرة غنية ومتنوّعة، يخوض خلالها في حقول معرفية مختلفة، ويجمع ما بين تاريخ الأدب والنقد الأدبي والبحث اللغوي والدرس الأكاديمي، وقد تمخّضت عن ستّة وتسعين كتابًا في مختلف الحقول حتى تاريخه.
يتناول خليل في كتابه ثلاثة عشر شاعرًا عربيًّا؛ يدرس لكلٍّ منهم مجموعة شعرية أو أكثر، مستندًا إلى مرجعيات ثقافية متنوّعة، وخبرة نقدية طويلة، ومنهجية معيارية واضحة. ويخرج من درسه بخلاصات ونتائج معيّنة، تضع الشاعر في إطاره المناسب، وتحدّد موقعه على خريطة الشعر العربي الحديث والمعاصر.
زوايا متعدّدة
تتعدّد زوايا القراءة في نصوص خليل النقدية، وتتنوّع، وقد تجتمع في النص الواحد، ولو طغى بعضها على ما عداه؛ فيهتم في بعضها بتقصّي الأنا الشاعرة وتمظهراتها في القصائد، ويرصد تجلّيات مذهب أدبي معيّن في بعضها الثاني، ويتلمّس المعيارين الأخلاقي والجمالي في بعضها الثالث، ويتقصّى استخدام مصطلح نقدي/ بلاغي في بعضها الرابع، ويقتفي أثر نوع أدبي معيّن في بعضها الخامس، ويتناول نوعًا شعريًّا في بعضها السادس، ويفعل شيئًا آخر في بعضها السابع. ويخلص، بنتيجة هذه العمليات، إلى أحكام نقدية جامعة مانعة، تتراوح ما بين المرونة والحزم، فنراه يثني على بعض التجارب الشعرية لشعراء غير مشهورين، من جهة، ويقصي آخرين ممّن طبقت شهرتهم الآفاق من جهة ثانية.
في هذا السياق، يتلمّس الناقد تحوّلات الأنا الشاعرة في مجموعة "أشجار الوهم" لمحمد مقدادي، معزّزًا تلمّسه بالشواهد الشعرية، فنرى الشاعر في غمرة المعاناة والإحباط والوحدة، في مواجهة واقع المدينة ووقائعها القاسية، غير أنه لا يني يقبض على جمرة الأمل، ويتحدّى الواقع، ويرفض الزيف، ويصدر عن منظور إيجابي للحياة؛ هو شعري بامتياز، يتم التعبير عنه بالشعر. ويفعل الشيء نفسه في قراءة أعمال محمد إبراهيم لافي الشعرية، فنراه يعاني اللجوء والطبقيّة؛ ومع هذا، لا يفقد الأمل في التغيير والترقّي، ويشهر الرفض والثورة والتمرّد بوجه الواقع القائم، ويصدر عن منظور مقاوم للجوء والفقر، وهو شعريٌّ بدوره، يتمّ التعبير عنه بالشعر. على أن الناقد يشفع ذلك باقتفاء أثر الرومانسية في هذه الأعمال بتمظهراتها المختلفة. والأمر نفسه يفعله خليل في قراءة أعمال علي الفزاع الشعرية، الذي تتعدّد مرجعياته الثقافية، فينطلق من وقائع معيّنة في الماضي، الديني والثقافي، ويعيد صياغتها في قوالب شعرية مُسقطًا الماضي على الحاضر، ويصدر عن رؤية شعرية ترفض مهادنة العدو، وتُعرّض بالقاعدين عن طلب الثأر، وتُمجّد ثورة الحجارة، وتُعلي من شأن القوة في نصرة الحق، وتنحاز إلى العروبة ضدّ أعدائها. وبذلك، يجمع الشاعر المدروس بين شعرية المنظور وشعرية التعبير.
معايير مختلفة
وإذا كان خليل في القراءات الآنفة يتّخذ من المضمون منطلقًا لرسم بورتريه الشاعر المدروس، فإنّه، في القراءات الأخرى، ينطلق من معايير مختلفة؛ ففي قراءته في مجموعة "وتريات ليلية" لمظفّر النوّاب، يستخدم المعيارين الجمالي والأخلاقي في عملية القراءة، ويبيّن في ضوئهما، بالشواهد الشعرية، تهافت نصّه وإسفافه، على المستويات اللغوية والأدبية والأخلاقية، وانزلاقه إلى درك الشتائم والسباب، وسقوطه في براثن الخطابة، ويخرجه من مملكة الشعر بالقول: "بيد أن النوّاب لا علاقة له بالشعر قطعًا، وقد تكون له علاقة بشيء آخر، فليسمّه محبّوه من الناس ما شاءوا، ولكن عليهم ألّا يسمّوه شعرًا" (ص 50).
هذا الموقف المتطرّف ينسحب على شاعر آخر، هو أشرف الزغل الذي يكتب قصيدة النثر، في مجموعته "صورة العائلة البشعة"، فيقرأها من زاوية النوع الشعري، ويصف نصوصها بعدم السلاسة، والتفكّك، والألغاز والأحاجي والخزعبلات، واللامعنى، واللعب بالكلمات، والضعف الفنّي، ويعزّز وصفه بالشواهد النصّية، ويخلص بنتيجة هذه المحاكمة إلى حكم مبرم، مفاده أن "قصيدة النثر نسلٌ هجين، لا هو بشعر، ولا هو بنثر" (ص 66).
ولعل هذا الموقف المتطرّف من قصيدة النثر هو الذي يجعله ينحاز إلى القصيدة العمودية في شعر إبراهيم العجلوني، ويرصد تمظهرات الجزالة فيها. ويهمل، في المقابل، قصيدة التفعيلة، مبرّرًا ذلك بأن الشاعر يجد نفسه في القصيدة العمودية أكثر ممّا يجدها في قصيدة التفعيلة.
مصطلحات نقدية
على أنّ ثمّة زوايا أخرى للقراءة يعتمدها الدارس في كتابه، فيقرأ في بعض المجموعات من زاويا المصطلحات النقدية/ البلاغية، ويقرأ في بعضها الآخر من زاوية النوع الأدبي، ولكل من الزوايا مقدّماتها والنتائج؛ وفي هذا السياق، يتقصّى المفارقة في شعر أحمد مطر، من حيث صفاتها وآثارها، فيصفها بالغرائبية المدهشة، أو اللفظية أو التركيبية أو اللعب اللفظي. ويحدّد آثارها بأنها "تبعث في شعره ضربًا من خفة الروح، والدعابة الساخرة، والدهشة التي تأسر القارئ، وتأخذ بتلابيب المتلقي" (ص 95). ويرصد تمظهرات التجريب في مجموعة "هدنة لمراقصة الملكة" لسلطان القيسي، ويحصرها في: الجمع بين الوزن والنثر، المزج بين الفصحى والعامية، العنونة بحرف غير عربي، تحرير المفردة من إرثها المعجمي، والتكثيف، مما يجعل تجربة الشاعر "تقوم على تحرير اللغة الشعرية من قواعد النظم، والتوسّع في الاستخدام المجازي للكلمات، والاطّراد كذلك في نسج الصور المبتكرة التي لا تخلو، في جلّ الأحيان، من مفارقات لفظية تُعَدّ خرقًا لما هو معروف، وتجاوزًا لما هو سائد ومألوف" (ص 84).
في السياق نفسه، يقرأ خليل في مجموعة "أحزان صحراوية" لتيسير سبول من زاوية الصورة، فيقتفي أثرها، في تدرّجها من البساطة إلى التركيب، ومن الصور الصغرى إلى الصورة الكبرى. ويقرأ في مجموعة "جنوح مؤقت" لمحمد ياسين من زاوية اللغة الشعرية، فيرصد ترجّحها بين الحقيقة والمجاز، بين النظم والشعر، مع الإشارة إلى طغيان الحدّ الأول في كلّ ثنائية على الثاني، فيكثر النظم المعبَّر عنه بلغة الحقيقة، ويقلّ الشعر المعبَّر عنه بلغة المجاز. ويقرأ في مجموعة "خيط مسحور" النثرية لعلي العامري من زاوية العلاقة بين الجزء والكلّ، فيشير، من خلال قصيدة "نعمة الالتباس" إلى شعرية الجزء بحيث تنطوي الجملة الواحدة على صورة جميلة وتعبير مبتكر، وعبثية الكلّ بحيث تفتقر الجمل المتعاقبة إلى التماسك والوحدة العضوية في إطار النص. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى الموقف التوفيقي الذي يتّخذه الدارس من هاتين المجموعتين، فيذكر ما لهما وما عليهما، خلافًا للموقف المتطرّف من مجموعتي مظفر النواب وأشرف الزغل الذي يقصيهما عن "جمهورية" الشعر لأسباب مختلفة.
يتوّج إبراهيم خليل قراءاته النقدية بقراءة مجموعة "لماذا تركت الحصان وحيدًا؟" لمحمود درويش. وهو يفعل ذلك من زاوية النوع الأدبي، فيروح يبحث عن شذرات من سيرته الذاتية في قصائد المجموعة، وهي موزّعة على سائر المجموعات، ويعثر على ذكريات متنوعة، تتعلّق بالطفولة والناس والأشياء والأمكنة، ويلاحظ تكرار أشياء درويش في مجموعاته المختلفة، من قبيل: مقهى، صحف، ورد، مكتب، موسيقى، هاتف، وغيرها. وهي أشياء مدينية بطبيعة الحال. ولعلّ تذكّر محمود درويش نابع من حرصه على الاحتفاظ بذاكرة خاصّة/ عامّة، يحرص الاحتلال على محوها. وبهذا المعنى، يغدو الشعر سلاحًا يشهره الشاعر في مقاومة المحو والنسيان.
وعودٌ على بدء، نحن إزاء مجموعة من المحاكمات النقدية التي تترتّب عليها أحكام مبرمة، يستخدم فيها "الحاكم" عدّته النقدية المتعدّدة الأدوات، ولا يتورّع عن قول رأيه بصراحة ودون مواربة، بمعزل عن درجة الصواب فيه، ولا تأخذه في ذلك نجومية شاعر، حَسْبُهُ أن "يقول كلمته ويمشي"، على حدّ قول أمين الريحاني، و"ليسهر الخلق جرّاها ويختصم"، على حدّ شطر جدّنا أبي الطيّب المتنبي.