كان الفلسطينيون يتجولون في الأسواق بالطرابيش والجلابيب الملونة، تعج بهم البازارات. تراهم مبتسمين وشاردين، متعطشين لما هو جديد، تختلط أزياءهم قديمها بحديثها. كان منظر الأرض لا يقلّ روعة عن السماء، قبل أن يتوقف الزمن!
قتلت أسمهان الزائرة الجميلة التي كانت تتردد على القدس كما بيروت والقاهرة من دون شروط، أو أي خلفية دينية أو قومية ضيقة، كأن حبلاً سرياً كان يربطها بالمدينة.
ليس سهلاً الكتابة عن إقامتها في القدس لأنها تحتاج إلى رحلة عبر الزمن، كما الكتابة عن حضورها على الرغم من حياتها القصيرة وعمرها الفني الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، إلا أنها تركت بصمة لا يمكن تجاوزها. كانت دائما مثار تساؤلات قد لا نجد لها إجابات، لكن خيباتها في الحب ومن المحيطين بها وإستغلالهم لها تشبه كثيراً خيبة القدس.
تاريخ فلسطين الثقافي
يقول واصف جوهرية، الموسيقار المقدسي الذي عايش تلك الحقبة، في مذكراته "القدس الانتدابية" بين الأعوام 1939-1948: "لم تفتنا فرصة في الحظ إلا وأغتنمناها، كانت حياتنا متواصلة بالحظ والسرور، ولم تنقطع عن الفن الرفيع، الذي أخذ القسم الأكبر بالرغم مما كان يجري في البلاد زمن الاحتلال البريطاني من إضطرابات وثورات، لكن السهرات استمرت حتى ما بعد منتصف الليل".
في الغناء والحب والسهر لم تكن أسمهان بعيدة عن القدس، إنه تناغم الأرواح التي تحلق وتسكن الأماكن نعتقد أنها بعيدة لكنها في أغلب الأحيان تكون قريبة أكثر مما نتصور.
من يبحث عن صورها في القدس يجد أن أشهرها أثناء زيارتها صوت "هنا القدس"، واستقبالها بحفاوة من مدير الإذاعة الفلسطينية عزمي النشاشيبي، في المبنى الواقع بين منطقتي المصرارة ومأمن الله في عام 1944.
في القدس، تزوجت أسمهان مرتين: الأولى كانت من فايد محمد فايد وكان زواجاً شكلياً لعشرين يوماً فقط، وشهد عليه محمد فوزي الذي كان يشغل منصب القنصل العام لمصر؛ أما زواجها الثاني فكان من المخرج والممثل أحمد سالم، أول مدير لاستوديو مصر. وفي القدس أيضاً، وقعت عقد فيلمها الثاني "غرام وانتقام" مع حسين سعيد مقابل 13 ألف جنيه، وقد نشرت جريدة الدفاع في عام 1946 إعلاناً عنه، حيث تم عرضه على مسرح جمعية الشبان المسيحية.
إقامة تليق بالأميرات
تقول إحدى الروايات التي كشف عنها الباحث والموثق طارق البكري قبل 10 سنوات إن أسمهان أقامت في منزلٍ جميلٍ في حي البقعة يعود لآل عويضة، العائلة التي كانت تملك فندق "موديرن - العصري" في شارع مأمن الله. كانت من كبار الزوار الذين احتفت بهم القدس، فآثر حسن وعبد السلام وعادل عويضة أن تقيم في أحد بيوتهم.
بعد الاحتلال الإسرائيلي، تغيرت المعالم كلها. فشارع البقعة أصبح شارع "عيمق رفائيم"، وصار بيت عائلة عويضة ملكاً لشركة "أحيم حسيد" الإسرائيلية. يقول البكري لـ"النهار" إنه إلتقى في عمان مؤخراً بالسيدة نهيل عادل عويضة، التي أوضحت له أنها تابعت القصة كما نشرها أول مرة، أنها لا تذكر أبدا أن اسمهان نامت في بيتهم في البقعة، "لكنها متأكدة تماماً من أن بعد مقتلها بفترة قصيرة زارتهم والدتها الأميرة علياء، وأقاموا على شرفها حفل شاي غنت خلاله".
يتابع البكري: "لدي مصدران، نهيل وسيدة أخرى من آل عويضة تعيش في الولايات المتحدة، لكني أميل أكثر إلى رواية نهيل عويضة، لأنها باحثة ومؤرخة وتكتب كثيراً"، لافتاً إلى أنه شاهد 3 مرات مسرحية بعنوان "من قتل أسمهان"، في المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي)، واللافت فيها البحث والدقة وإلاتقان والمجهود غير العادي الذي قام به الفريق.
من قتل أسمهان؟
يقول الممثل المسرحي المقدسي عزّت النتشة، الذي أدى دور المحقق "يُسري" الذي أوكلت اليه مهمة التحقيق في مقتل أسمهان، لـ"النهار" إنه لم يكن يعرف عنها شيئاً، وقرأ عنها مطولاً، "وواجهت عدداً هائلاً من الشائعات التي انتشرت في الصحف، وأسقطت احتمال أن يكون الحادث قضاءً وقدراً، مع التأكيد أن هناك من يقف وراء جريمة موتها غرقاً، ورغم مرور 80 عاماً على رحيلها، لم يُحل اللغز، وأُسدل الستار عليها بعد أن لقيت وصديقتها ماري قلادة حتفهما غرقا في ترعة تصب بها مياه نهر النيل، وسقوط سيارتها فيها وهرب سائقها الخاص".
لماذا أسمهان؟ يجيب النتشة: "المحقق الذي تسلم ملف التحقيق بمقتلها كان رجلاً لا غبار عليه، حاولوا خداعه لإغلاق القضية، لكنه استمر في التحقيق حتى تم اغتياله. أحدهم لا يريدنا أن نعرف سبب اغتيالها، تماماً كما حدث مع أبو عمار".
انتهت المسرحية بمقتل المحقق، فالتقى بأسمهان ملاكاً. سألها: "من قتلك؟"، أجابته: "كلهم قتلوني، كنت فوق احتمال العالم ده.. أنا كنت ست بين عالم رجالة، وكنت بتبع قلبي".